أخبار

“وأطلقت شعرها للريح”.. عن بطلات الأفلام السعودية في مهرجان البحر الأحمر

في مشهد الذروة بفيلم “هجان” إخراج أبو بكر شوقي، يتوقف “مطر” الهجان الصغير عن بلوغ خط النهاية، تاركاً هجان آخر يتجاوزه إلى الفوز، لنكتشف أن الهجان الأخير ليس سوى فتاة تركب الجمل الطائر حين تنزع غترتها وعقالها، وتطلق شعرها للرياح التي تطيره وكأنه راية النصر التي حازته.

يمكن اعتبار هذا المشهد تحديداً، مفتاحاً لقراءة عدد من الأفلام السعودية التي شاركت هذا العام ضمن برامج الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي (30 نوفمبر – 9 ديسمبر)، ووصل عددها إلى 7 أفلام طويلة (هجان، وناقة، وأمس بعد بكرة، وأحلام العصر، ضمن برنامج روائع عربية، ومندوب الليل، ونورة، ضمن المسابقة الرسمية، بالإضافة إلى فيلم الافتتاح حوجن)، وهي المشاركة الأكبر من حيث الكم والأكثر تميزاً من ناحية المحتوى والنوع (تراث – إثارة اجتماعية – أكشن – كوميديا – فانتازيا)، في دورات المهرجان منذ تأسيسه عام 2021، بما يعكس تطوراً مستمراً في صناعة الفيلم السعودي التي تنمو بصورة لافتة عاماً بعد آخر.

“بنت الصحراء”

يسهل على أي متابع أن يتلمس تلك القماشة الحريرية التي تمتد بين 3 أفلام من أصل التجارب الـ6، وهي: “ناقة” إخراج مشعل الجاسر، و”هجان” لأبو بكر شوقي، و”نورة” لتوفيق الزايدي، وهي القماشة الملونة بحضور نسوي مُعلن وغير عابر، فحتى على مستوى العناوين، باستثناء “هجان”، يحمل الفيلمين الآخرين هذا العطر النسائي الممتلئ بالتأثير السحري لتجليات تاء التأنيث.

أول الخيط في تلك القماشة هو خيط الصحراء، فبطلات الأفلام الثلاث يشتبكن مع الصحراء على المستويين المادي والمجازي في تركيبة انفعالية تصل إلى تخوم التهديد والخطر والموت.

في “هجان”، ورغم أن البطولة للشاب “مطر”، الهجان الصغير، الذي يرغب في الانتقام من راعي الإبل الذي تسبب في مقتل أخيه في أثناء أحد السباقات نتيجة لأسلوبه المتطرف في الغش ولولا لاهتراء الضمير، إلا أن “مطر” حين يستقر في مزرعة أبو جاسم، يكتشف أحد أهم الأسرار التي يخفيها هذا الحقود، الذي يعاني أحماضاً نفسية تمزق داخله، فواحد من هجاني أبو جاسم هو في الأصل فتاة، جميلة، صلبة كأنها ثمرة نضجت للتو على غصن الوقت، هي ابنة أخي جاسم وربيبة أمها التي تزوجها أبو جاسم من أجل الحفاظ على حلال أخيه، ويحقق الفوز الذي طالما انتظره أياً كانت الوسيلة، ليكتب اسمه في لوحة شرف السباق الأهم بالمملكة.

ومن هذه اللحظة تشارك الفتاة، “مطر” ليس فقط السر، ولكن التواطؤ ضد أبو جاسم وحلمه النجس بالفوز على حساب كل القيم والأخلاق، بل وأرواح البشر، فتساعده على التحرر من سجن أبو جاسم والهرب بالناقة حفيرة التي حقق بها كل انتصاراته، ثم عقب استعادة أبو جاسم للناقة لأنها حلاله، تتشكل خيوط المؤامرة ضده من قبل مطر والفتاة، وهي المؤامرة التي تتجلى ذروتها في المشهد الذي تفك فيه الفتاة عقالها مطلقة شعرها للريح، لينذهل الجميع ويدركون أن أبو جاسم يستخدم فتاة كهجان في السباقات -وهو أمر ممنوع- وتشهد هي ضده على كل ما كان يجبرها وآخرين على فعله بالهجانة الآخرين وقت التسابق لكي يفوز.

أما في فيلم “ناقة”، فتصبح الصحراء هي العالم السفلي الذي تهبط إليه المراهقة “سارة”، التي كان جل ما تريده هو قضاء بعض الوقت مع حبيبها، والذي وعدها برحلة سريعة إلى الصحراء في مخيم قريب يملكه شاعر كبير، وذلك قبل موعد عودتها المقدس، حيث ينتظرها أبوها في يده سكين -مجازي- يمكن أن ينحرها به لو تأخرت.

هنا نرى وجهاً آخر للصحراء، يذكرنا بالوجه الذي يعرضه توفيق الزايدي في “نورة”، وهي بطلة الفيلم الثالث والتي تعيش في قرية منسية في ذروة اشتعال زمن الصحوة بكل ما هو ذكوري ومقبض وقاهر.

الصحراء في فيلمي “ناقة” و”نورة”، هي أرض الاختبار الصلب، ومسرح انهيار الأحلام والرؤى، في الصحراء تكتشف “سارة” وجهاً آخر للمجتمع الذي لا يزال يعاني ازدواجية كامنة، فالحبيب القادم بها إلى لحظات من الحلم الرومانسي تكتشف أنه يخونها في المعسكر بمجرد أن تختفي عنه، والشاعر الكبير الذي ينتظر الكل قصيدته في مدح المنتخب الوطني في ليلة مباراة كأس العالم، ليس سوى مدع يدف في السر لشاعر مغمور كي يدبج له قصيدة الفوز من الباطن، في حين يتحول معسكره إلى حفرة عشوائية تختلط فيها المخدرات بالدم، والجنس بالموت.

وحين تحاول “سارة” الهرب، تطاردها ناقة فقدت خلوجها بفم مرعب، يرغب في تمزيقها انتقاماً بعد أن رأتها الناقة تركب السيارة التي دهست الخلوج في محاولة للهرب والعودة إلى المدينة، حيث ينتظرها زيف آخر وكبت مريع.

أما “نورة”، فلم تختر أن تأتي إلى الصحراء، بل أجبرت على ذلك حين توفي والدها وهي صغيرة، وبقيت هي وأخوها الصغير في حضانة عمتها وزوجها، الذي يبدو مثل سجان يحول دون أن يشع نور جمالها خارج حدود الرمل والظلام.

وحين يأتي المدرس/ الرسام “نادر”، كي يلتحق بمدرسة القرية، وتمسك “نورة” بالرسمة التي كافأ بها أخاها الصغير، تدرك أخيراً أن حلمها بالتحرر يمكن أن يتحقق لو أن الرسام تمكن من حفظ ملامحها بألوانه، قبل أن يمسخها الحزن أو تدهسها زيجة بالإكراه من بدوي جلف بلا خيال أو ذوق.

عضة الناقة

في فيلم “هجان”، تشكل الناقة جسراً مجازياً بين عالمين، عالم تسيطر عليه المادة في أحط صورها متمثلة في نفوذ أبو جاسم وقدرته على شراء النفوس والذمم ودهس المصائر، وعالم مطر الروحاني الذي تحكمه لغة الشعر/ الحداء، والذي يمكن فيه لخلوج صغير أن تدب فيها الحياة، حين تسمع صوت هجانها الغض، أو تعود إلى الحياة عقب طعنها، حين تسمع الحداء نفسه من صاحبها، الذي صار الآن شاباً منتصراً ومحرراً من وطأة الرغبة في الانتقام وفقدان البراءة، بل أن الناقة والفتاة مطلقة الشعر تكادان تكونان وجهين لعملة واحدة، فلا فرق بين ما تفعله الفتاة مع مطر، وما تقدمه له الناقة، فكلتاهما تساعده وتحرره بصورة أو بأخرى.

ولا ننسى أن أبو جاسم يلقى حتفه تحت أقدام حفيرة بعد أن حاول طعنها، وهو الموت المادي بعد موته المعنوي على يد ابنة أخيه التي كشفت سره، والتي انتظرنا أن يكتب اسمها في لوحة الشرف، بدلاً منه في انتصار نسوي مبين.

ولا تكاد تبعد ناقة “سارة”، عن ناقة حفيرة كثيراً، ربما باستثناء أنها الوجه الآخر الأكثر غضباً، حيث تملك ناقة سارة تلك الفورة التي تجعلها لا تنسى موت خلوجها، خاصة وهي حامل بآخر، وتحاول أن تنتقم ممن فعل هذا، السائس على وجه الخصوص الذي ينحر الخلوج قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعد أن صدمه حبيب سارة بسيارته، ويوازي الفيلم ما بين ما تحمله سارة في داخلها من غضب نتيجة شعورها بالقهر والكبت، ومداهمتها غير المنتظرة لوكر الزيف والفساد، وبين الناقة التي لا تنسى ثأرها ولا تهدأ، إلا إذا نالته في النهاية.

ولم يكن رفع سارة للفيديو الذي يفضح سرقة الشاعر الكبير لقصيدة مدح المنتخب سوى عضة الناقة/ سارة، انتقاماً وتفريغاً لغضب الليلة الرهيبة التي قضتها في مقلاة من المشاعر الجهنمية، والتي كادت أن تفقدها حياتها سواء في الصحراء، أو على يد الأب الذي لن يتورع عن تمزيقها إذا تأخرت.

الريح في شعرها

بينما تطلق الفتاة شعرها للريح في نهاية فيلم “هجان” كعلامة انتصار وتحرر، ينتهي فيلم “نورة” على صورتها التي احتفظ بها المدرس “نادر” في ذاكرته، رغم أنه لم ير وجهها كاملاً ولا مرة، ولم تطل عليه سوى من وراء حجاب القهر، أو بعينين ترجوانه أن يحررهما من غبار الصحراء، ويأخذهما معه إلى المدينة، حيث تعيش مع جدها، وتشتري المجلات التي تحبها علانية، وتترك وجهها لكل ريشة وعدسة تقع في محبة جماله.

في المشهد الأخير من “نورة” نشاهد صورتها معلقة فيما يشبه المعرض الفني –أو المتحف كما أرادت- بوجه قمري كامل، وشعر طويل منسدل ونظيف، لا أثر لحرارة الصحراء ولا ظلام القرية على خصلاته، شعر فائر بالحرية وفائز بها، شعر يبدو مثل نبوءة لما سوف يتحقق لاحقاً -أحداث الفيلم تدور عام 1996- وتصبح صورة نورة بشعرها الحر هي مصيرها الحقيقي، وليس رقدتها في فراش ملوث بعرق السجن في منزل زوج عمتها، تنتظر زيجة ملعونة أو موت جبان يلوث شبابها بالتراب.

هكذا يمكن أن نجزم أخيراً، أنه على الرغم من تفاوت المستوى بين الأفلام الثلاث فيما يخص بعض التصدع في قوة السرد أو قليل من الخلخلة في دقة البناء أو غياب ملامح النضج في الوسائل التعبيرية –ناقة ونورة هما الأعمال الطويلة الأولى لمخرجيهم، بينما هجان هو الفيلم الثاني لأبو بكر شوقي القادم من مصر- إلا أن الأفلام الثلاثة تحمل بلا شك كما أشرنا إلى عناصر مشتركة (الصحراء والناقة والشَعر) وتعكس وجود خصوصية نسبية، وهموم متقاطعة، وتفاعلات ذهنية ونفسية متشابهة العناصر والأصول، تجعلنا نجزم بأننا نعايش مرحلة تأسيسية هامة في طور النمو الذي تمر به صناعة السينما في السعودية، وهو ما يستحق الرصد والتمهل في تقييمه، دون محاباة مُفسدة، أو تعنت مُغرض، لأن البدايات مبشرة، وعلى ما يبدو، فإن القادم لن يخلُ من إشراقات أكثر في الأسلوب، واتساع أمتن في الرؤى والأفكار.

المصدر : الشرق

إغلاق