أخبارثقافة عالمية

” عيون مُنى”.. تعويذة الفن بمواجهة العمى

بينما كانت الطفلة ذات السنوات العشر تنجز واجباتها المدرسية، وجدت نفسها وقد أظلمَ كل شيء حولها. “شَعَرتْ بظلّ ثقيلٍ ينزل على عينيها، كما لو أراد أحد مُعاقبتهما، لكونهما زرقاوين، كبيرتين جداً، نقيّتين جداً”.

“عيون مُنى” هي رواية صدرت عام 2024، عن دار النشر الباريسية “ألبين ميشيل” Albin michel،  للروائي والكاتب الفرنسي المتخصص بتاريخ الفن، توماس شليسر.

منذ صدورها، فاقت مبيعات الرواية كل التوقّعات، وحازت على تغطية إعلامية واسعة، وكتبت عنها الصحف الكبرى والمجلات المتخصّصة، وتُرجمت إلى لغات كثيرة، بعد أسابيع على نشرها بالفرنسية.

لم يكن الظلّ آتياً من الخارج، كما يحدث عادةً، عند حلول الليل أو عندما تخفت الأضواء في المسرح. أصيبت الفتاة بتوقّف تدريجي للبصر، لمدّة ساعة من الزمن، ما استدعى عرضها على المختصّين وعلى أطباء نفسيين، لمعالجة هذا العارض الصحي الخطير، وتجنّب حدوثه مرّة ثانية.

اتفقت العائلة على أن تخضع الفتاة لعلاج نفسي، وأن يُرافقها جَدّها هنري ظهيرة كل أربعاء، لزيارة المحلل المختصّ بمعالجة الأطفال. لكن عوض أن يَفي الجدّ بوعده، قرّر أن يعالجها على طريقته، وأن يأخذها على مدى 52  أسبوعاً (سنة كاملة)، إلى أهمّ  ثلاثة متاحف باريسية هي: اللوفر و”أورسي” و”بوبورغ”، كي تتأمّل تحفة فنية خالدة من روائع الفن العالمي.

غلاف رواية "عيون منى" - albin-michel.fr
غلاف رواية “عيون منى” – albin-michel.fr

تعويذة الفن

هنا تتجلى حيلة الكتاب ومبرّر وجوده، بِهدف إمتاعنا بحكاية من خلال حيثيات العلاقة ما بين الجَدّ والحفيدة. يتميّز الكتاب بمحتوى فلسفي واضح، لجهة الحِكَم والأفكار والاستشهادات التي تَرِد فيه.

يقدّم الكتاب أسرار الفن بشكل يُرضي العارفَ بالمجال وغير العارف، عبر توليفة غير معهودة في ميدان علاقة الفنون التشكيلية بالسرد الأدبي. وهذا هو الأهم.

فالكاتب معروف كمُتخصص في تاريخ الفن، وأستاذ للمادة في معهد الأطر العليا، “البوليتكنيك” في باريس، ومدير مؤسسة “هارتونج- بيرجمان”، المُكلف بضمان الحفاظ على الأعمال والمحفوظات والتراث المعماري لممتلكات “أنتيب”، التي أنشأها الفنان العالمي هارتونج.

ها هو يمنحنا هنا سَفراً من نوعٍ خاصّ، يُزاوج بين الفن والفلسفة والسرد الروائي في 496 صفحة. وهكذا بدل أن يكون العَمى هو نهاية كل اتصالٍ بَصري مع العالم، يجعلنا الكاتب نكتشف العكس، أي أنه بدايته ومُنطلقه، شرط أن يملأ العين بالروائع الجمالية، مثل زادٍ ينفع في تقوية الروح.

ولأن الكتاب رواية بالأساس، فلا بد من نحت أوصاف خاصة للشخصيتين الرئيسيتين:

هنري الجَدّ شخصية غريبة الأطوار، مُنعزل في محله لبيع المقتنيات القديمة، لا علاقة له بالراشدين الذين يَتصيّدون أخطاء الأطفال والشباب.

أما الطفلة منى، فهي حيوية ومتّقدة، لديها الفضول المعرفي، وتملك خاصية اللعب بالكلمات والجُمل. يشترك الجدّ مع حفيدته في أنهما يُعلقان حول عُنقهما، قِلادة من النوع نفسه، كان قد أهداها لها.

وبالتالي تولّد نوع من التفاهم السِري بينهما، سهّل قابلية التلقّي الفني بسلاسة، في علاقة مع حياتها بين أبويها وبالمنزل وفي المدرسة. وهو ما مكّن الكاتب من سرد كلّ معارفه في الفنون، من رسمٍ ونحتٍ بشكل مُبَسّط، لكن مدروس في ثنايا أحداث عائلية لها أسرارها الخفية. ما جعل الفن يظهر على شاكلة علاجٍ من خلال تعويذة الفنون.

نقرأ في الصفحة 37 ما يلي: “جدي، بماذا أجيب إذا سألتني أمي وأبي عن اسم الطبيب الذي ذهبت لرؤيته، ربما سأخبرهم أن اسمه الدكتور بوتيتشيلي.” وتقصد به الفنان بوتيشيللي، الذي يبدأ به مسار الرحلة بين ردهات المتاحف.

الكاتب الإيطالي إرّي دو لوكا - polytechnique.edu
الكاتب الإيطالي إرّي دو لوكا – polytechnique.edu

خبايا الفن

إن القصد الذي ترومُ إليه فصول الرواية الـ52، بَعد تأمّل كل تُحفة، والاحساس التام بجمالها، هو استخلاص المفهوم الفلسفي الذي توحي به، والسعي لتطبيقه في الحياة اليومية.

وهو ما ستحاول بطلة الرواية منى القيام به، على منوال امتحان واقعي، على أثر تعلّم الدرس. يقول الكاتب توماس شليسر: “منذ نحو عشرين عاماً، وأنا أحاول أن أروي تاريخ الفن بشكل مختلف: على أمل أن يخدم الحياة”.

من أجل الوصول إلى هذا المُبتغى، فرض الجَدّ على منى أن تتأمل العمل الفني لدقائق في صَمتٍ تام، ثم تستمِع بعدها إلى ما سيشرحه لها عن عناصره، والهدف من رسمه أو نحته، ثم الإجابة عمّا فهمته، استناداً إلى حوارٍ ثنائي بينهما.

الابتسام في وجه الحياة

هكذا يُستخلص من الفصل المخصّص لبوتيشيللي، درْس الأخذ والعطاء الإنسانيَين، من خلال جداريته “فينوس والنِعم الثلاث”. ومن لوحة “لاجوكند” الشهيرة لليوناردو دافنشي، دَرْس الابتسام في وجه الحياة. ومن لوحة مايكل أنجيلو، رسام اللوحات الكنسية، فكرة التخلص من الماديات.

ويستخلص من لوحة “البُستانية الجميلة” لرافاييل، عدم اتباع هوى النفس الأمّارة في كل شيء. ومن لوحة الفنانة الفرنسية مارغريت جيرار، يستخلص بأنه لا وجود لجنس إنساني ضعيف، في إشارة إلى المرأة من خلال لوحة “التلميذة المُثيرة للاهتمام”. ومن لوحة الفنان البريطاني توماس غانسبوروغ، يتعلم المرء أن يمنح الأحاسيس فرصة التعبير.

هي أمثلة ضمن أخرى، وظّفها الكاتب ليمنح في الوقت نفسه دروساً ذكية للقرّاء، حول الفنون التشكيلية منذ عصر النهضة في إيطاليا وحتى اليوم، وخصوصاً في مدينة فلورنسا، وحول فنانين كبار، على غرار بابلو بيكاسو، وبيير سولاج المعروف بتوظيف اللون الأسود، وماني وباسكيا وفريدا كالو، مروراً بكل المدارس والتيارات الفنية المعروفة، كالرومانسية والانطباعية والتكعيبية والتجريدية.

كما يورِد نبذة عن حياة كل فنان في ارتباطٍ مع اشتغاله الفني، وملابسات رسمه أو نحته للتحفة المدروسة. ما يعطي إِحاطَةً شبه شاملة، تُيسّر خبايا الإبداع الكثيرة والمدهشة.

أين تذهب ألوان الأشياء

زَرع الكاتب أيضاً في ثنايا الرواية، لمحاتٍ ذات أهمية كبرى، أسست للفن بصفة عامة. ومن ضمنها أساساً التعريف بمدى فعالية استخدام الألوان، ودورها في كل لوحة، ومدى علاقتها بالأشياء المرسومة، التي لا تأتي اعتباطاً، بل لغاية محدّدة ومُفكّر فيها.

يكتب شليسر: “أين يهرب بياض الثلج عندما يذوب، وأحمر البركان عندما ينطفئ، وأرجوان القطيفة عندما يتلاشى، وبنّي الشعر عندما يتحوّل إلى اللون الرمادي، وزرقة السماء عندما يهرب النهار، ربما هناك جنّة للألوان؟”

إنها الألوان نفسها التي ستستعيدها مُنى في حالة العمى المُحتمل. ما دامت ترسّخت في تلافيف ذاكرتها، ويسهُل عليها أن تتعرّف عليها خارج الرؤية البصرية العادية إذا ما افتقدتها.

أصل الرسم العَمى

من الواضح أن توماس شليسر، وهو يُدبّج روايته التعريفية تلك، كان يستحضر كتاب الفيلسوف جاك دريدا، حين أشار في “مُذكّرات كفيف” ما يُفيد بأن أصل الرسم عَمَى عابر، تُعَبِّر عنه رمشة العين، التي “تجعل البصر يتنفّس” كما قال.

وبالتالي يُمكن القول بأن  رواية “عيون مُنى”، هي بمثابة لحظة تنفّس طويلة، عبر الانخرَط الحقيقي في مشاهدة الروائع الفنية في فن الصباغة والنحت. ألم يرسم الفنان رائد الانطباعية كلود موني في آواخر حياته وهو أعمى تقريباً، وكذلك الفنان رودولف تمبلر الذي كان أعشى.

هنا قيمة الفكرة التي كانت وراء الكتاب، الذي قالت عنه صحيفة “لوفيغارو” بأنه “الكتاب الذي يتخاطفه الجميع”.

كتبت صحيفة “لومند” في 16 فبراير 2024، “إنها رواية تُعلمنا الحياة والفن معاً، وكتاب يحتوي على مكوّنات التركيبة الناجحة: مشروع درامي بارع، قصّة مديدة وآسرة، ونهاية مشوّقة، كتابة سلسة، عواطف تتدفّق كالسيل، رابط سحري بين جيلين”.

يياع الكتاب حالياً في نحو ستين دولة، من بينها الصين وأميركا، وهو بصدد الترجمة إلى لغات كثيرة، ما جعل وَصْفَه بـ”الكتاب الظاهرة” في فرنسا، أمراً منطقياً.

المصدر : الشرق للاخبار

إغلاق