مقالات وبحوث

حقيقة اللبرالية العلمانية وموقف الإسلام منها

بقلم: د. أحمد بن عثمان التويجري

المرتكز الأعظم الذي تقوم عليه اللبرالية هو ما يطلق عليه في اللغة الإنجليزية “Anthropocentrism” أي مركزية الإنسان في الوجود، وهي رؤية فلسفية ترى أن الإنسان أعظم ما في الكون وأن له بعقله وقدراته الذاتية حق الهيمنة على شؤون الحياة .

جذور هذا التصور تعود إلى الفيلسوف الإغريقي أرسطو وبخاصة في كتاباته المتعلقة بفلسفة الأخلاق والسياسة، كما تعود إلى التوراة وبخاصة روايات الخلق في سفر التكوين، كما تعود إلى التصور النصراني الإنجيلي المحرّف الذي يرى أن الإله تجسد في صورة إنسان (هو المسيح عليه الصلاة والسلام)، فصار بتجسد الإله فيه رباً وإلهً معبوداً.

لقد آمن أرسطو بأن العقل قادر بشكل منفرد على تحديد ما هو خير وما هو شر، وما هو خُلُقي وغير خُلُقي، والأساس في ذلك قدرة العقل البشري على الهيمنة والتحكم في كل شيء. وفي بدايات “عصر النهضة” “Renaissance” في أوروبا تبلورت النزعة الإنسانية التي آمنت بأن الإنسان مركز الكون، وتكوّن مفهوم “إنسان عصر النهضة” أو “الإنسان العالمي” “Uomo Universale” ذلك المفهوم الذي حمل لواءه الفنان والمهندس المعماري وعالم الرياضيات الإيطالي ليون باتيستا ألبرتي Leon Battista Alberti الذي عاش في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي وكان يرى أن “الإنسان قادر بقدراته المستقلة أن يفعل كل شيء ويحقق كل ما يريد متى ما توافرت لديه الإرادة”.

في دراساتها المستفيضة عن فلسفة أرسطو التي كان لها أصداء كبيرة وكثيرة في الأوساط العلمية والفلسفية في جامعات الغرب، بيّنت الفيلسوفة الأمريكية مارثا نسباوم MARTHA NUSSBAUM الأستاذة في قسمي الفلسفة والقانون في جامعة شيكاقو جذور معتقد مركزية الإنسان Anthropocentrism عند أرسطو مخالفة بذلك كثيرا ممن سبقوها الذين لم يفطنوا لجذور هذا التصور في كتاباته.

في الجانب الآخر نجد في الإصحاح الأول من سفر التكوين من التوراة ما نصه: “وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض، فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه”. هكذا وبكل وضوح جعلت التوراة المحرفة الإنسان شبيهاً لله وصنواً له ومنحته حق التسلط على الوجود وما فيه من كائنات.

من هذه المنطلقات التي تؤلّه الإنسان وتجعله مركز الوجود والمهيمن عليه تشكلت الأسس الفلسفية العميقة للّبرالية، ومن بذورها انبثقت تصوراتها الأولى عند جون لوك وتوماس هوبز وروسو وديكارت وكانت ومن تبعهم من منظري اللبرالية، فالإنسان بصفته مركز الوجود وأعظم ما في الكون يجب ألا يخضع إلا لإرادته هو ، وأن تكون له الحرية المطلقة فيما يختاره مما يتعلق بشؤونه الخاصة، وعلى المستوى الجمعي ومن خلال النظام الديموقراطي الذي تكوّن في رحم الفلسفة اللبرالية أن يشارك الآخرين في مجتمعه على قدم المساواة في تحديد ما يختارونه مجتمعين دون قيود على الإطلاق سواء أكانت تلك القيود من دين أم أعرافٍ أم تقاليد.

في التطبيقات العملية للبراليك نجد أن الشذوذ الجنسي ،أو ما يسمى تمويهاً “المثلية” على سبيل المثال، أباحته معظم إن لم يكن كل التشريعات الغربية من هذا المنطلق الذي يؤله الإنسان ولا يضع حدوداً لما يفعله إلا الحدود التي يضعها هو لنفسه، وفي كثير من الدول الغربية أبيح استخدام بعض المخدرات ورخّص لدور البغاء والدعارة ومنح حق انتاج وتسويق الأفلام الإباحية الجنسية من المنطلق نفسه، بل تعدى الأمر كل ذلك إلى منح حق التلاعب بالذكورة والأنوثة وإلى منح الإنسان الحق في تشويه جسده وتعمّد إيجاد العاهات والإعاقات فيه. وفي الحقيقة وبناء على ما تمليه الفلسفة اللبرالية، فإنه ومن منطلق مبدئي ليس هناك ما يحول دون سنّ أي تشريع مهما كان طالما أُقرّ من قبل الأغلبية من الشعب أو من يمثلونهم. فالفرد (الإنسان الإله) له أن يعمل في نفسه ما يشاء وأن يمارس في حدود ما يخصه دون غيره كل ما يشطح إليه خياله، والأساس الفلسفي لكل هذا هو الاعتقاد بمركزية الإنسان وكونه أعظم ما في الوجود أي إلهاً لا يسأل عمّا يفعل.

في تعريفها لمفهوم مركزية الإنسان “Anthropocentrism” تقول دائرة المعارف البريطانية ما نصه : “يجد العديد من علماء الأخلاق جذور المركزية البشرية في قصة الخلق التي تم سردها في سفر التكوين في الكتاب المقدس اليهودي المسيحي ، حيث خلق البشر على صورة الله وتم توجيههم إلى الهيمنة على الأرض و السيطرة على جميع الكائنات الحية الأخرى ….. لا يقتصر هذا الخط الفكري على اللاهوت اليهودي والمسيحي ويمكن العثور عليه في سياسة أرسطو وفي فلسفة إيمانويل كانط الأخلاقية”.

في المقابل ينظر التصور الإسلامي إلى الإنسان على أنه مستخلف في الأرض ومؤتمن على عمارتها وليس سلطاناً مهيمناً عليها وعلى ما فيها من مخلوقات. وهو مطالب بعبادة خالقه وخالق الأرض والوجود وذلك بالاستجابة لأوامره والانتهاء عن نواهيه وتطبيق شريعته وليس بفعل ما تميل إليه شهواته أو تشطح إليه خيالاته.

من مزاعم بعض أدعياء اللبرالية في العالم العربي قولهم: “إن علماء الشريعة والمفكرون المسلمون يدّعون أن اللبرالية ضد الدين في حين أن اللبرالية تتيح حريةً شبه مطلقة لجميع الملل والأديان”. وفي الحقيقة لا أعلم أن أحداً سواء من العلماء والمفكرين المسلمين المعتبرين أو من غيرهم قال: إن اللبرالية ضد الدين. ولكن ما يكاد يجمع على قوله علماء الشريعة والمفكرون المسلمون هو إن الدين الإسلامي وتصوراته مناقضةٌ للبرالية في أصولها الفلسفية وفي كثير من تطبيقاتها، حيث إن مفهوم مركزية الإنسان في الوجود في الفلسفة اللبرالية وأنه صاحب الهيمنة عليه وأن له أن يفعل ما يشاء مناقضٌ ومضادٌ بشكل كامل لعقيدة التوحيد في الإسلام. فالله عز وجل وليس الإنسان هو المهيمن على الوجود وهو مالك الكون والمشرّع وحده وليس الإنسان، وكل ما يحق للانسان أن يعمله أو لا يعمله في الحياة سواء أكان فرداً أو مجتمعاً يجب أن يكون منبثقاً من أوامر الله ونواهيه أو مبنياً عليهما عملاً بقول الله عز وجل: “قُلۡ إِنَّنِی هَدَىٰنِی رَبِّیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ دِینࣰا قِیَمࣰا مِّلَّةَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ حَنِیفࣰاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ • قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ • لَا شَرِیكَ لَهُۥۖ وَبِذَ ٰ⁠لِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ”.

إن من نافلة القول: إن مناقضة الإسلام للبرالية في مسألةِ مركزيةِ الإنسان ودور عقله في تحديد ما يجب عليه فعله كما تصورها أرسطو وكثير من فلاسفة عصر النهضة الأوربية لا تعني بأي وجه من الوجوه أن الإسلام محارب للعقل، أو أن علماء الشريعة لا يقدّرون قيمة العقل أو لا ينزلونه المنزلة التي تليق به، وإنما وعلى العكس من ذلك تماماً فإن الإسلام أول وأعظم دين أشاد بالعقل وحث على إعماله، بل جعله من أهم شروط التكليف للمؤمنين به, والآيات التي توجب وتحض على إعمال العقل والتفكر والتدبر أكثر من أن تحصى. غير أن الإسلام يضع العقل في مكانه الذي خلق له فلا يرفعه إلى منزلة أعلى من خالقه ولا يجعله نداً له.

إن من أهم ما دفع كثيراً من أبناء المسلمين إلى الافتتان بالليبرالية انبهارَ

هم ببعض القيمِ التي شاع بين الناس أنها قيم لبرالية مثل المساواة والعدل وحرية الاعتقاد وحرية الفكر وحرية التعبير والتسامح واحترام الآخر وسيادة القانون وغيرها مما تتبناه أو تدّعي تبنيه النظم اللبرالية. والمتأمل المنصف في هذه القيم يجد أن الإسلام دعا إليها وأوجبها قبل اللبرالية بقرون وقرون، وإن من أعظم الإجحاف نسبتها إلى اللبرالية وليس إلى الإسلام. ولا يضير في هذا الشأن ولا يغيّر من الحقيقة شيئاً كون المسلمين وللأسف الشديد لم يلتزموا بهذه القيم بشكل كامل ولم يجعلوها واقعاً ملموساً في حياتهم بصورة مثلى سواء أكان ذلك في ماضيهم أم حاضرهم باستثناء فترة النبوة والخلافة الراشدة.

إن عبارة “لا إله إلا الله” أعظمُ نداء للحرية على امتداد التاريخ، وإن “لا إكراه في الدين” أبلغُ مادة دستورية لحماية حرية الاعتقاد، وإن “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” أكمل دعوة للأخوة الإنسانية والمساواة، وإن “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم” أجمل تعبير عن التسامح والتعايش السلمي بين الناس، وباختصار شديد ما من فضيلة أجمع العقلاء على استحسانها إلا وكان لها في الشريعة الإسلامية سابقةٌ وأصلٌ مكين. بل إن تعاليم الإسلام تفوقت على جميع الشرائع في كثير من المجالات، فبر الوالدين مقرون بتوحيد الله، وصلة الأرحام من أوجب الواجبات في الدين وليس لها مثيل في كل الأديان والشرائع، والتكافل الاجتماعي في الإسلامي ليس عملاً تطوعياً وإنما مسؤولية فردية وجماعية يأثم كل من لا ينهض لأداء واجباتها، وكيف لا وقد قال المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام: “ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع”!!!. وقال في الحديث المختلف في إسناده ولكن أصله صحيح: “أيما أهل عرصة أمسوا وفيهم جائع فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله”!!!، ولو حاولنا استقصاء كل ما دعا إليه الإسلام وأمر بالالتزام به من القيم والمباديء السامية لاحتجنا لمجلدات ومجلدات.

إن كل من له خبرة بعواصم العالم اللبرالي “المتمدن” ومدنه الكبرى يعلم أن في شوارعها كثيراً ممن لا مأوى لهم يطلق عليهم باللغة الإنجليزية “Homeless”، وهم متروكون لأقدارهم، لا الدول ترعاهم ولا الناس في الغالب الأعم يشعرون بأي مسؤلية إيمانية أو اخلاقية تجاههم. ولا تخلو مدينة في الغرب من دور للعجزة يوضع فيها الأجداد والجدات والآباء والأمهات ثم ينساهم من وضعهم من أولادهم وأحفادهم. وقد يُعتدى على ضعيفٍ أو امرأة في مكان عام ولا يهبّ أحد في معظم الأحيان لنصرتهما. وغير ذلك كثير كثير مما لا يقره الإسلام ولا تقبله قيمه ومبادئه.

وفي الجانب الآخر، ليس في اللبرالية شيء من منظومة القيم السلوكية المتعلقة بمكارم الأخلاق التي يزخر بها الإسلام ويأمر معتنقيه بممارستها في تعاملاتهم اليومية . فليس في اللبرالية على سبيل المثال “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه”، وليس فيها “أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم”، وليس فيها “حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار”، وليس فيها “وأما السائل فلا تنهر” وغير هذا مما يطول ذكره ويصعب حصره.

إن من أعظم ما أصاب الأمة الإسلامية على مرّ العصور عدم التزام المسلمين الالتزام الكامل بتعاليم الإسلام، كما إن من أعظم ما أصاب الأمة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها جهل كثير من أبناء المسلمين بحقيقة دينهم ووقوعهم فرائس سهلة للغزو الثقافيّ بجميع أنواعه ومستوياته. وإن من نافلة القول: إنه لن تكون هناك نهضة حقيقية لأمة الإسلام إلا بوعيٍ عميقٍ بحقيقة الدين وإحياء شامل وكامل لقيمه، وتحصين متين لأجيال الأمة ضد كل غزو ثقافي، والحمد لله من قبل ومن بعد.

إغلاق