أخبارثقافة عالمية

الشماغ العراقي والكوفية الفلسطينية .. تراث تحوّل إلى رمز

الشماغ ذو اللونين الأسود والأبيض، هو غطاء تراثي يوضع فوقه العقال على الرأس، يضعه أهل جنوب ووسط العراق تحديداً، وهي جغرافياً، منطقة الحضارتين السومرية والأكادية.

يقول بعض الباحثين بأصل الشماغ الأكادي، استناداً إلى تماثيل الملك الأكادي (كوديا) في متحف اللوفر بباريس، وهو أوّل من لبسه كناية عن الرِفعة والسموّ والشجاعة، كعصابة للرأس، وليس بشكل مسترسل على الكتفين كما هو في وقتنا الحاضر.

يعُدّ الشماغ الزيّ الرسمي لعشائر جنوب ووسط  العراق، ولا يبدو مطلقاً شيخ العشيرة حاسراً ومن دونه، إذ يعتبر ذلك عيباً، كما لا يظهر من دون العقال، وهكذا، أصبح زيّاً ملازم له.

اليوم هناك عودة إلى لبسه اقتداء بالتقاليد العشائرية، بعد ما قضى العراق شوطاً لا بأس به في ترسيخ قيم المدنية، من أعراف وتقاليد وأزياء.

 تعدّ الكوفية جزءاً من أدبيات التحرّر الوطني والنضال العالمي، مثل صور جيفارا ومانديلا. وفي سياق التأليف الأدبي، ظهرت الكوفية كغلاف لكتاب بعنوان “عن فلسطين” لنعوم تشومسكي وإيلان باييه، بالإنجليزية والعربية.

الألوان في الشماغ

يقول  المؤرّخ والباحث محمد رحيم الجوراني لـ”الشرق”، تغيّرت ألوان الشماغ بحسب مكوّنات المجتمع العراقي؛ اللون الأسود للعوام، والأحمر لطائفة الصابئة المندائيين، الذي انتشر في دول الخليج، وفي الأردن، عند تأسيس قوات البادية عام 1930، والأخضر يمثّل السادة من نسب النبي محمد (ص)، وقيلَ اللون الأبيض للفلاحين”.

الكوفية الفلسطينية رمز النضال والقضية -رويترز
الكوفية الفلسطينية رمز النضال والقضية -رويترز

الشماغ العراقي والسعودي

يلبس السعوديون الشماغ الأحمر، وثمّة تواصل حضاري وعشائري ما بين العراق والسعودية، وخاصة منطقة نجد؛ ينحدر ناصر باشا السعدون شيخ عشائر “المنتفك” في الناصرية من السعودية، وتوجد محلّة تسمّى (النجادة)، سكنها السعوديون الوافدون إلى قضاء سوق الشيوخ التابع للناصرية.

هكذا نرى التلاقح الثقافي والحضاري بين البلدين، يقول السيد حامد الدليمي من عشائر مدينة الأنبار العراقية لـ”الشرق”، “نحن نلبس في المناطق الغربية (الغترة) البيضاء الناعمة والخالية من النقوش، ويرتديها الخليجيون أيضاً كرمز للرفعة والجاه والأناقة”.

سدارة الملك فيصل الأوّل البغدادية

في مدينة بغداد، وبعض مناطق الموصل، تُلبس هناك “السدارة”، وهي قبّعة تُشبه شكل القارب التقليدي، قابلة للطيّ، ارتبطت بالزيّ العسكري، واستعملها ملك العراق فيصل الأوّل، رغبة منه بتأسيس زيّ عراقي أسوة بالدول المجاورة.

هكذا تسمّى بـ”الفيصلية”، لبسها عالِم الاجتماع علي الوردي، ولا تُلبس حالياً إلّا نادراً بخلاف الشماغ الشائع جداً. وهناك أغنية عراقية شهيرة للمطرب يوسف عمر “يا حلو يا بو السدارة”.

غلاف كتاب نعوم تشومسكي عن فلسطين - الشرق
غلاف كتاب نعوم تشومسكي عن فلسطين – الشرق

اقتصاديات الشماغ

تشتهر مدينة كربلاء بصناعة الشماغ مع قرينه العقال، وازدهرت تجارته مع دول الخليج تحديداً. ونظراً لشيوع ارتدائه (يلبسه كلّ عراقي جنوبي تقريباً)، تُعدّ تجارته مُنظّمة ورابحة، ولها أماكن مشهورة لتسويقها، مثل محل الحاج عاشور منذ العام 1957 في مدينة الناصرية، والحاج كاظم عويل في مدينة العمارة، فضلاً عن وكلاء معتمدين في الخليج.

العراق تاريخياً وحضارياً بلداً مائياً

سُمَي العراق قديماً “بلاد ما بين النهرين”، وأطلق عليه إبان الحقبة الإسلامية “بلد السواد”، وذلك لشدّة كثافة لون النخيل، بحيث تميل إلى الأسود جرّاء الخصوبة، وتشكلّت آلهة الجمال والخصب عشتار، من عالم الزراعة المعتمد على الماء، فضلاً عن أن الطوفان المعروف في الأديان والأساطير، قد أنجب عراقاً جديداً ما بعد الطوفان.

هكذا، يُرجع بعض الباحثين، الخطّين المتوازيين في الشماغ إلى نهرَي دجلة والفرات، أمّا العُقد السود عليه، فترمز إلى شبكة الصيد، وكأن بلاد ما بين النهرين، هو وجود يشكّله الماء؛ ابتداء من الرقائم الطينية وهي من غرين الأنهار، مروراً بآجر بناء المعابد والبيوت من المادة ذاتها، وصولاً إلى الملابس والأزياء والمطبخ.

وبناءً على نظرية “سوسيولوجيا الفن”، يمكن اعتماد ارتباط خطيّ الشماغ بالنهرين كتفسير معقول. بينما يرجّح البعض العُقد عليه باعتبارها تعويذة.

الثابت،  كما يقول المختصّون في علم الأزياء والتراث الشعبي، هو انحدار الشماغ  من جنوب العراق، وتحديداً في عصر الملك كوديا (حكم من سنة 2144 – 2124 ق.م)، الذي منعَ الكهنة من ارتدائه للقضاء على سلطاتهم يومذاك، جاعِلاً السلطتين الدينية والمدنية حكراً عليه. إذاً، كان الشماغ من رموز السلطة.

 

صناعة الكوفية في عمان - الشرق
صناعة الكوفية في عمان – الشرق

“حزن معدان”

يرتدي المواطن العراقي الشماغ، حماية من أشعة الشمس، وكدلالة على الرِفعة والجاه، وعندما ينزعه أمام الناس، فهو يعبّر عن تعرضّه للإهانة، ويجب عليه عندئذٍ استعادة اعتباره.

يضطر العراقي إلى لفّ رأسه به عند الفاجعة، ثم يحزن أربعين يوماً، وهو ما يطلق عليه “حزن معدان”، أي حزن شديد وقوي، والمعدان هم سكان الهور. كما استخدموه بدل الكِمامة خلال الجائحة.

وعليه، تمّ ترحيل وظيفة الملابس إلى غاية اجتماعية وسياسية، وهذا الأمر شائع في العراق، فقد كان يطلق (زيتوني) وهي “سُبّة” على كلّ شخص يشتغل مع نظام البعث الحاكم، إذ شاع ارتداء الملابس العسكرية ذات اللون الأخضر الزيتوني من قِبل الحزبيين والأمن والمخابرات.

الكوفية الفلسطينية

يُستعمل الشماغ لِثاماً للوجه، حمايةً من الغبار والعواصف. وينبغي الإشارة، إلى أن قبائل الطوارق في المغرب الأقصى، تستعمل وشاحها المشهور ذا اللون الأزرق لِثاماً ضدّ العواصف الترابية. هذا اللِثام، نراه يومياً في مشاهد حرب الإبادة على غزة، في معنى مقاومة الاحتلال، وفي غاية عسكرية أمنية هي التخفّي.

يقول الأديب والباحث الفلسطيني محمود مفلح البكر، الرئيس الأسبق لمجلة “التراث الشعبي” في دمشق لـ”الشرق”: تُنسب الكوفية الفلسطينية، كما أعتقد إلى مدينة الكوفة العراقية التابعة للنجف، وكانت مركزاً للخلافة الإسلامية في عصر ما، وقِبلة للعلماء، خرج منها الخط الكوفي الشهير جداً، ومنه انبثقت لاحقاً الخطوط العربية. كما أسهمت بتأسيس المدرسة النحوية الكوفية مقابل مدرسة البصرة.

والكوفية هي لباس شعبي في بلاد الشام، كانت موجودة في فلسطين قبل الاحتلال البريطاني، ونظراً لما توفّره الكوفية من دفء في أيام البرد في الخريف والشتاء، وظِلّ في الصيف، فقد لبسها ثوّار فلسطين الذين يتحصّنون في الجبال؛ وعلى هذا النحو شاع استعمالها في أثناء مقاومة الاحتلال البريطاني”.

رمز نضالي

وعن ارتدائها كرمز نضالي وطني، واختيارها باللونين الأسود والأبيض من دون الألوان الأخرى، يقول البِكر وهو مؤلّف كتاب “القهوة العربية في الموروث والأدب الشعبي”، صدر تعميم آنذاك بارتدائها، “لكي لا تتعرّف السلطات البريطانية على الثوّار وتعتقلهم، وهكذا، أصبحت الكوفية لباساً رسمياً في ثورة 1936، ورمزاً للنضال من أجل الحرية”.

أضاف: “تجدّد اعتمادها في الثورة الفلسطينية الثانية عام 1965، وأصبحت أقوى رسالة تعبّر عن المقاومة والنضال من أجل الحرية. ولعِب الفن الفلسطيني دوراً كبيراً في تعزيز مكانة هذا الرمز، فتجاوز حدود فلسطين إلى كل دعاة التحرّر في العالم”.

وأشار إلى أن فلسطين “اختارت الكوفية ذات الشبكة السوداء، لانسجامها مع الوسط الطبيعي الفلسطيني، من أشجار، ونباتات، وصخور، وتراب، وغيوم، وليل”. ما يسمّى في العلوم العسكرية “الغش والاختفاء”.

يكتب العالِم الأنثروبولوجي كلود ليفي ستروس، الذي عاش في الهند نحو 40 عاماً، ودرس الإثنيات هناك، “أن الرموز الدينية والثقافية لها تأثير نفسي وجسدي واجتماعي على الإنسان الذي يؤمن بوجودها”.

شعار فلسطين عالمياً

تستعرض وسائل الإعلام يومياً مشاهد الاحتجاج على إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، من خلال مظاهرات تُشهر الكوفية، إمّا عن طريق ارتدائها، أو جعلها أعلاماً. كما عُرضت الكوفية في ملتقيات فنية تشكيلية في إسبانيا وفرنسا.

ظهر أخيراً الرئيس الفنزويلي مادورو متّشحاً الكوفية في مؤتمر لدعم فلسطين، كما لبسها المشاركون في الملتقى الدولي الخامس للتضامن مع فلسطين في جنوب أفريقيا. بدأت الكوفية بالظهور في الانتفاضة الأولى (1987- 1993)، ثم أصبحت تقليداً في الإعلام يرتديها مقدّمو البرامج ونشرات الأخبار.

تعدّ الكوفية جزءاً من أدبيات التحرّر الوطني والنضال العالمي، مثل صور جيفارا ومانديلا. وفي سياق التأليف الأدبي، ظهرت الكوفية كغلاف لكتاب بعنوان “عن فلسطين” لنعوم تشومسكي وإيلان باييه، بطبعتيه الإنجليزية والعربية المترجمة.

الأيقونة- الكوفية

السؤال، كيف تحوّلت قطعة قِماش إلى رمز نضالي عربي ودولي؟

للإجابة عن ذلك ننطلق من ظاهرة أعلام الدول واعتمادها رمزاً وطنياً، ثم من الشارات والميداليات التي تعلّق على صدور الثوريين، وكذلك النشيد الوطني. مرّ العَلم الوطني لبعض الدول بتحوّلات كثيرة وفقاً للسياسة وتغيّر الحكّام؛ إذ تغيّر العَلم العراقي مرات عدّة (في زمن صدام وبعده)، أسوة بالنشيد الوطني، وما يزال غير مُعتمد بشكل رسمي.

كما تغيّرت بعض أعلام الدول، مثل هولندا، بريطانيا والنيبال. والعَلم، هو قطعة قماش أيضاً، رفرفت في الآفاق، واعتمدت لدى الأمم المتحدة، وبالرغم من ذلك التبدّل، وقِدم نشوئه، إلا أنه أصبح رمزاً للدول.

“عرفات.. عرفات”

رسّخ الرئيس ياسر عرفات الكوفية عالمياً، بوصفها أيقونة النضال الفلسطيني، ولم يظهر رسمياً من دونها.

ينادي الباعة المصريون في الأقصر والقاهرة على الكوفية جذباً للسياح باسم (عرفات.. عرفات). هناك نماذج أيقونية دينية جاذبة مثل أيقونة السيدة العذراء، وأيقونة الهلال في أعلى الجوامع، وأيقونة الحيّة الملتفّة على واجهات الصيدليات.

يجد المرء في الأيقونة تعبيراً مباشراً عمّا يضمر أو يريد إعلانه. وفي سياق متّصل، نرى في معرض “الدعاية السياسية” المُقام في المركز الإسباني في الرباط، استعمال الشارات والميداليات في إسبانيا منذ عصر فرانكو لأغراض سياسية وعسكرية، مستفيداً من الصورة المعاصرة، وكذلك الأفيش السينمائي.

كما نشاهد في الجانب الآخر، الشارات والميداليات السوفيتية لصور القادة السوفييت، بما يسمّى الفن التعبوي، الذي يطمح إلى ترسيخ صورة الزعيم أو الرمز.

يكتب العالِم الأنثروبولوجي كلود ليفي ستروس، الذي عاش في الهند نحو 40 عاماً، ودرس الإثنيات هناك، “أن الرموز الدينية والثقافية لها تأثير نفسي وجسدي واجتماعي على الإنسان الذي يؤمن بوجودها”، ويقصد نفوذ الأيقونة.

المصدر : الشرق

إغلاق