أخبارثقافة عالمية

الجواهري “نهر العراق الثالث”.. غريب المنافي والنهايات

“سلامٌ على هضبات العراق وشطـّـيه والجُرف والمنحنى”..

أراد له والده أن يكون فقهياً كجدّه، فخالف الشاعر الجواهري رغبته، سائراً ضدّ قدره، متبنّياً صفة الشاعر ودوره وطبائعه. يخالف الشعراء أقدارهَم غالباً، إيماناً منهم باجتراح حياة مغايرة ومصائر غير منصوص عليها، يُعاون الشاعر على ذلك تمرّده وكبرياؤه الداخلي، وفكرة  مصارعة العالم وكأنّه في مبارزة.

هناك شعراء في التاريخ الأدبي، اجترحوا  قدرهم الشخصي بأنفسهم (صفة شعرية بامتياز) من أمثال المتنبي، المعرّي، أتيلا يوجيف، ماياكوفسكي، كافافي وسفيتلانا.

ابن النجف.. وجواهر الكلام

ولد الشاعر محمد مهدي الجواهري (1899 –1997) في النجف لدى عائلة دينية عريقة، وورث لقب الجواهري من عميدها الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، مؤلّف كتاب في الفقه “جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام”.

هكذا لُقّب بالجواهري. اشتغل موظّفاً في البلاط الملكي، ثمَ ترك وظيفته قسراً بسبب مواقفه السياسية، وعمل في التعليم فترة معينة، ثم صحافياً.

السؤال هو: لماذا لم ينخرط الجواهري بالحداثة الشعرية وظلّ هكذا، شاعراً عمودياً بامتياز؟ كأنّ الجواهري يردّ: وقائِلةٍ أما لك من جديد، أقول لها القديم هو الجديد”.

hg[,hivdالشاعر محمد مهدي الجواهري- الشرق

كانت السياسة وروح الشاعر وتحوّلاته، تحدّد مساره  المهني والحياتي والشعري، في علاقة يصفها البعض بالمُلتبسة، فتارة هو مثقف غرامشي، وخاصّة في بداياته، وطوراً مادِحاً السلطة ورموزها في سنواته الأخيرة؛ الملك الأردني الحسين بن طلال، والرئيس السوري حافظ الأسد وسواهما.

الجواهري والشعر العمودي

لم يكتب شاعر “العرب الأكبر” سوى الشعر العمودي (الأعمال الشعرية الكامِلة)، على الرغم من أن روّاد الشعر العربي الحديث، أي شعر التفعيلة، هم عراقيون، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، بلند الحيدري وسعدي يوسف والبياتي.

ما تزال آراء النُقّاد والشعراء وخصوصاً العراقيين متضاربة حوله، فمنهم مَن يعتقد بوقوف الجواهري ضدّ الحداثة الشعرية بامتياز، ولم ينخرط بموجة الحداثة الشعرية والتجديد، وآخرين، يعتبرونه نتاج بيئته وتربيته التراثية جمالياً وشعرياً.

لكن السؤال هو: لماذا لم ينخرط بالحداثة الشعرية فظلّ هكذا، شاعراً عمودياً بامتياز؟

كأن الجواهري يردّ: وقائِلةٍ أما لك من جديدٍ، أقول لها القديم هو الجديد”.

يقول موريس بلانشو: “من ذا الذي سيولي عنايته لقول جديدٍ، قول لم يُقَل؟ ليس المهمّ أن نقول قولاً، وإنّما أن نكرّر القول، وفي هذا التكرار، نقوله مرةً أخرى أو لمرّة”، أو كما تقول العرب “لولا أن الكلام لما ينعاد لنفذ”.

الجواهري مع الرئيس البكر- الشرق
الجواهري مع الرئيس البكر- الشرق

ظلّ الجواهري شاعراً عمودياً بلا منافس، على الرغم من ظهور الشاعر العمودي عبد الأمير الحصيري، وهو من مدينة النجف كذلك، لكنّه توفي باكراً بعد ما عاش حياة قلقة وصعبة.

اللافت هو، رأي الشاعر العمودي العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، ردّاً على سؤال وجهه صحافي له، مقارناً إياه بالجواهري، قائلاً: “حذاء الجواهري على هامة أعظم قصائدي”.

 الجواهري مع الأمير عبدالله- الشرق 
 الجواهري مع الأمير عبدالله- الشرق 

الجواهري ومدينة براغ: عشتُ فيها فترة عزّ ودلال

تُعتبر إقامته في مدينة براغ لمدة 30 عاماً، (طلب اللجوء السياسي عام 1961)، من أجمل السنوات التي عاشها، وكتب فيها أروع قصائده بعيداً عن السياسة وهمومها.

من أصدقائه المستعرب التشيكي ليبوش كروباتشيك، وياروسلاف أولفيريوس أستاذ الأدب العربي ومترجم “كليلة ودمنة”.  يقول واصفاً المدينة: “براها (براغ) سلامٌ كلما خَفقَ الصباح على الهضابِ، ما نفضَتْ ريحُ الصبا قارورة العطرِ المُذابِ”.

كان الشاعر يرتاد مقهى مشاهير الأدباء والكُتّاب “سلافيا”، الواقع على نهر الدانوب، وهناك صورته إلى جانب الشاعر ناظم حكمت وآخرين، ويعدّ المقهى مزاراً لكل عراقي يزور مدينة براغ، وتسمّى عراقياً بمقهى الجواهري.

مقبرة الغرباء في دمشق

توفي الجواهري في دمشق في 27 يوليو 1997؛ بقي جثمانه على الحدود العراقية السورية مدّة يومين، ولم تسمح السلطات حينها لعائلته بدفنه في بغداد.

هكذا ووري الثرى غريباً في دمشق بجانب زوجته أمونة، وهو القائل “حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني.. يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمّ البساتينِ، يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُهُ على الكراهةِ بين الحِينِ والحين”.

تضمّ مقبرة الغرباء في دمشق رفات شعراء وكُتّاب عراقيين كُثر، من أمثال الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، والشاعر مصطفى جمال الدين، وشخصيات سياسية أخرى، وكأنّ النفي الجسدي والمعنوي، قدر العراقي أينما حلّ في إيران وأوروبا وموسكو.

 بيت الجواهري متحفاً

يقع البيت في حي اليرموك ببغداد، وهو من الأحياء الراقية، إذ خصّصت له نقابة الصحفيين قطعة الأرض المشيّدة عليها الدار راهناً، بحسب ما جاء برسالة الباحث مهدي المخزومي، التي ردّ عليها قبولاً الجواهري. استملكت أمانة بغداد البيت بعد مناشدات كثيرة عراقية، وحوّلته إلى متحف.

يَضمّ المتحف صالة للوثائق والرسائل والمقتنيات: كما يوجد فيه رداء شخصي، كتبه، نظارته، الجوائز والأوسمة المهداة له، وراديو ماركة “سوني” لم يفارقه. (قال غاستون باشلار في لقاء صحفي عن الراديو؛ لا يمكنني العيش من دونه، أتابع موجز الأخبار كل ساعة من الصباح حتى المساء.. أشعر وكأن العالم يدور من حولي، أن يحضر العالم في شكل خبر، إنه لأمر رائع).

وخصص المتحف مكاناً لطاقية الجواهري المشهورة، التي لم تفارقه بناء على نصيحة طبية، ولها أيضاً حكاية سياسية، فقد أهدى له الزعيم الكردستاني مصطفى البرزاني، طاقيةً مكتوب عليها “كردستان”، شاهدةً على موقفه المناصِر للقضية الكردية.

يبدو من المراسلات، وكذلك مسودّات القصائد وتصويباته عليها، بأن الجواهري يوثّق يومياته خلافاً لعادة الشعراء الذين لا يولون اهتماماً لذلك. صُور متنوّعة مع الزعماء والرؤساء، تشهد على قرن من الأحداث، عاشها بكل عنفوانها، سطّرها في كتابه “ذكرياتي” في 3 أجزاء، مثلما كتب الشاعر بابلو نيرودا في مذكراته “أشهد أني قد عشت”.

خيال الجواهري

تقول كريمته الدكتورة خيال الجواهري، المختصّة بعلم المكتبات لـ”الشرق”: “عشنا في هذا البيت منذ عام 1971، وهو الأوّل والأخير للجواهري؛ فقد عاش في بيوت عدّة مستأجراً إياها، ورافضاً المغريات كلّها”.

وعن رأيها بتحويل المنزل إلى متحف تقول: “حبذا لو يُدرج في الدليل السياحي لمدينة بغداد، وأن تقوم وزارة التربية بعمل زيارات ميدانية للطلاب، لغرض التعرّف على رموز الثقافة الوطنية العراقية”.

أما صهره الفنان والكاتب صباح المندلاوي، وهو مؤلّف كتاب “الجواهري، الليالي والكتب” فيقول لـ”الشرق”: كان الجواهري يتمتّع بذاكرة حادّة جداً، وعندما كنت أقرأ له من عيون الشعر العربي، وكانت أحياناً في طبعات رخيصة، وذات أخطاء مطبعية، كان يصحّح الجواهري الأخطاء مباشرة من ذاكرته..

أضاف: “كان شغوفاً بالمطالعة وهو في سنْ الشيخوخة.. وكنت أقرأ  له ساعات في الليل وكلانا في نشوة عارمة”.

  الصور وتحوّلات الجواهري مع السلطة

يعتبر الجواهري، شخصية كاريزمية إزاء الكاميرا؛ ذو قامة طويلة، ويعتمر طاقيةً جاذبة. وهكذا، يسيطر على منصّة الإلقاء والميكروفون، وكأنه في حدث شعري، والكاميرا تتابعه، ويبدو من خلال أرشيفه بأنه يعشق الصور، ويعتني بجمعها وتبويبها.

يحبّ الشعراء عموماً التقاط الصور ونشرها، كما يعشق الإنسان ذاته الصور والإشهار عن ذاته، بحسب الكاتبة إلزا غودار، في كتابها “أُوسِيلفي إذن أنا موجود”.

الجواهري والرؤساء

يزخر متحف الجواهري بصوره الكثيرة مع الرؤساء والزعماء العرب، وهو القسم الذي يطغى على المتحف برمته، وثمّة إمكانية لعرض الصور بشكل فني وبإخراج سينوغرافي جميل، عوض تركها هكذا مُعلّقة على الحائط، فإخراج المتحف بصرياً يختلف عن البيت الشخصي أو المدرسة أو المقهى.

تظهر صور الجواهري مثلاً مع الزعيم عبد الكريم قاسم، في علاقة من نوع خاص؛ صورته معه وهو راقد في المشفى إثر محاولة اغتيال الزعيم، مع صور أخرى في مجالات كثيرة، وبوضعية تُظهر الجواهري في تلقائية عفوية وكأنهما أصدقاء فحسب.

كما توجد صورة جماعية تجمعه مع الرئيس المصري حسني مبارك، وأخرى مع ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز، وصورة شخصية مع الرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر، والرئيس السوري حافظ الأسد. وهكذا  تكشف الصور تحوّلات الشاعر السياسية وعلاقته برموز السلطة.

المكتبة والتمثال

“الشرق” زارت متحف بيت الجواهري في بغداد، والتقت النحّات ستّار كامل مدير المتحف، فأوضح أن” أمانة بغداد قامت بترميم الدار وتأهيله ليصبح متحفاً عام 2022، يضمّ قاعة لمقتنياته ولوثائق الشخصية، وغرفة فيديو، وتمّ لاحقاً افتتاح غرفة لنشاطاته الصحفية والإعلامية”.

أضاف: “تحتوي المكتبة على تمثال من الشمع، قمتُ بتنفيذه بناء على تكليف أمانة بغداد الراعية للمتحف”.

وعن ظروف العمل ومدّة إنجازه يقول: “استغرق إنجاز التمثال 4 شهر، بسبب صعوبة الإمساك بشخصية الشاعر المتعدّدة الجوانب، كان العمل بإشراف نجله كفاح.. كما نفّذتُ درعاً يُهدى للضيوف”.

يستقطب المتحف شخصيات مهمّة وزوّار عاديين، ويُنظم أمسية ثقافية كل شهر. تقول الطالبة شروق محمد، “أنا مسرورة بزيارة المتحف والتعرّف على قامة وطنية وثقافية كالشاعر الجواهري، ويا ليتني أمتلك مكتبة شخصية مثله”.

يبدو أن هناك وثائق ومقتنيات شخصية لدى عائلة الشاعر، لم تُسلّم بعد إلى المتحف.

الجواهري والصحافة

في الصالة التي افتتحت أخيراً، بعنوان “الصحافة والإعلام”، نتابع الشاعر صحافياً، وهو كان أوّل رئيس لاتحاد الكتاب العراقيين (يسمّى راهناً اتحاد الجواهري؛ نظراً لمساهمته بتأسيسه).

كما احتلّ منصب نقيب الصحفيين العراقيين، وأسّس ثلاث صحف عراقية يومذاك هي، “الانقلاب”، “الرأي العام” و”الفرات”، ولديه مقالات صحفية وسياسية كثيرة، وفي مناسبات شتى، فضلاً عن صوره وزملائه في النقابة في المظاهرات والمسيرات الشعبية.

تعرض كل منصّة في المتحف نسخة مقال واحدة ثابتة لا غير، وهي تقنية قديمة وبدائية، والمفروض كما هو شائع في المتاحف، إتاحة الإمكانية للزائر بتصفّح المحتويات بلمس الشاشة أو بكبسة زرّ.

40 رسالة ماجستير

كما لا توجد كمبيوترات للطلبة الباحثين الذين يغريهم البحث في تراث الجواهري؛ هناك 40 رسالة ماجستير ودكتوراه عنه. لا يوجد متجر لبيع محتويات المتحف، ناهيك عن افتقاره إلى معلومات ولوائح تعريفية باللغة الإنجليزية للسيّاح الأجانب.

متحف الجواهري مقارنة بمتاحف الكُتّاب

يدخل الزائر إلى متحف “كافكا” في مدينة براغ مثلاً، رأساً إلى عوالم الكاتب الكابوسية، ابتداء من اللون الأسود، مروراً بالموسيقى التراجيدية، وصولاً إلى الإنارة الخافتة، فضلاً عن الإخراج الفني للوثائق والصور والمراسلات، من خلال منظومة صوتية وبصرية، مع عرض أدائي بصري لبعض صوره.

ثمّة هواتف قديمة في كل مكان، يستمع من خلالها الزائر إلى رسائله، وإلى الآراء النقدية حول أعماله.

أمّا متحف بيت الكاتب الفرنسي فيكتور هيجو، وكذلك الشاعر مالارميه، فهناك إخراج فني لكل زاوية فيه، بحيث يشعر الزائر بشخصية الكاتب هيجو مّجسّدة بالصور جمالياً، فضلاً عن  مِنصّات تعرض صوراً ووثائق كثيرة بضغطة زر فحسب.

بينما هناك فقر بصري وتشكيلي في متحف الجواهري، وهو “نهر العراق الثالث”، كما يطلق عليه في بعض الأدبيات، الذي يستأهل متحفاً بصرياً وتشكيلياً راقياً.

بيوت الكُتّاب والعلماء في بغداد

هناك مسؤولية لأمانة بغداد، باستكمال جهدها وتعزيزه على إخراج المتحف مقارنة بمتاحف الكُتّاب في أنحاء العالم، وخصوصاً بوجود الإمكانات المادية.

كما ينبغي إنشاء وتأهيل سلسلة متاحف لبيوت الشعراء والمفكّرين والعلماء، من أمثال عالِم الاجتماع علي الوردي، والشاعر الزهاوي، والرصافي، والبياتي، ونازك الملائكة وسواهم، عسى أن تقتدي محافظات العراق بأمانة بغداد، لا سيما هناك أكبر مشروع  سكني في بغداد باسم “مدينة الجواهري”.

نماذج من قصائده في رثاء أخيه جعفر

“أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ

بأنّ جِراحَ الضحايا فمُ.

يا طلعةَ البِشْر، إذ ينجلي

ويا ضِحكةَ الفجرِ إذ يَبْسِمُ.

لم يبقَ عندي ما يبتزه الألم..

حسبي من الموحشات الهمّ والهرَم

أنا حتفهم ألج البيوت عليهم

أغري الوليد بشتمهم والحاجبا”.

المصدر : الشرق

إغلاق